علاقة الاختصاص النوعي بالنظام العام- عبد الرحمان الباقوري-
ذ.عبد الرحمان الباقوري
عين على قانون المسطرة المدنية
------الجزء 16 -----
------تتمة الجزء 7---
- إذا كان الاختصاص النوعي، يتحدد في كونه الصلاحية التي يمنحها القانون لجهة قضائية للنظر في نوع معين من القضايا والحكم فيها، إما بالنظر لموضوعها – أحوال شخصية أو تجارية مثلا- أو بالنظر لصفة في أطرافها – كالدعاوى التي يكون أحد اطرافها شخصا خاضعا لأحكام القانون العام، أو هو توزيع العمل بين المحاكم المختلفة داخل الجهة القضائية الواحدة، بحسب نوع القضية، فإنه بالاطلاع على مقتضيات الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية نجد المشرع، في ظهير 28 شتنبر 1974 المتعلق بالمسطرة المدنية قد نظم الاختصاص النوعي بشكل مرتبك ومتناقض، رغم أن التظيم القضائي أنذاك – أي سنة 1974- لم يكن يقتضي الحديث اصلا عن الاختصاص النوعي، مادام لم يكن يوجد من المحاكم غير المحاكم الابتدائية، وفوقها محكمة الاستئناف، ذوات الولاية العامة في جميع القضايا، باستثناء ما كان يعود لمحاكم الجماعات والمقاطعات. وبتفحص مقتضيات هذا الفصل فإنه يحيلنا على ملاحظتين اساسيتين :
1 - الملاحظة الأولى :
تمت الاشارة لها في الجزء السابع السابق نشره بتاريخ 12 شتنبر 2019، والتي تحدثت فيها عن الطبيعة القانونية للدفع بعدم الاختصاص، من كونه لا يعتبر لا دفعا شكليا ولا موضوعيا ولا دفعا بعدم القبول، وانما هو دفع إجرائي أولي، أو هو دفع فريد.
2 – الملاحظة الثانية :
لما أكد المشرع في الفصل 16 أعلاه بعبارة الإلزام إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي قبل كل دفع أو دفاع تحت طائلة سقوط الحق في إبدائه، إذا وقع إثارة أي دفع شكلي قبله، أو وقع الخوض في الجوهر، فإن ذلك يعني تجريد الاختصاص النوعي من رداء النظام العام. ولم يكتف المشرع بوجوب إثارته قبل كل الدفوع الشكلية والموضوعية وبعدم القبول، وقبل الخوض في الجوهر، بل ألزم في الفقرة الثانية أن يبين مثيره المحكمة المختصة وإلا وقع الحكم بعدم قبوله.
وإذا تفحصنا الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية من زاوية أخرى، نجد إن المشرع الذي خول للمحكمة عدم قبول الدفع بعدم الاختصاص النوعي إن لم يثر قبل كل دفع أو دفاع، هو نفس المشرع الذي أعطى ذات المحكمة – محكمة الدرجة الأولى- صلاحية إثارة عدم اختصاصها النوعي تلقائيا عملا بالفقرة الأخيرة من الفصل 16.
ومن جهة أخرى، وبإلقاء نظرة على الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية، نجد المشرع ينص على وجوب تبليغ القضايا التي تتعلق بعدم الاختصاص النوعي إلى النيابة العامة، دون القضايا المتعلقة بعدم الاختصاص المكاني، بالرغم من كون المشرع اعتبرهما من طبيعة واحدة في الفصل 16، ثم إن المشرع لم يميز في القضايا التي يجب تبليغها إلى النيابة العامة- المتعلقة بعدم الاختصاص النوعي - بين الدعاوى التي تثير فيها المحكمة عدم اختصاصها تلقائيا وبين تلك التي يثار فيها الدفع من قبل الأطراف، وفي هذه الحالة الأخيرة، ما الغاية من تبليغها إلى النيابة العامة إذا لم يحترم الأطراف تراتبية الدفوع، وحكم بعدم قبول الدفع بعدم الاختصاص.
والأمر الذي يوضح مدى ارتباك المشرع أثناء صياغته لهذا الفصل، هو حين وصف الدفع بعدم الاختصاص بالطلب، حين نص على : " يجب على من يثير الدفع أن يبين المحكمة التي ترفع إليها القضية وإلا كان الطلب غير مقبول"،
ويقول أستاذنا محمد الكشبور، في تحديده للآثار التي ستترتب بسبب الموقف الذي اتخذه المشرع المغربي ازاء الدفع بعدم الاختصاص النوعي في علاقته بالنظام العام :
1 – الانعكاس السلبي على حقوق الدفاع :
ومفاد هذا الاثر إن منع المحكمة من إثارة عدم الاختصاص في المرحلة الاستئنافية يعطي لقاضي الدرجة الأولى، صلاحيات تفوق تلك المعترف بها لقضاة الاستئناف، الشيء الذي يمس بالأثر الناشر – والأصح هو الأثر الناقل – لهذا الطعن الأخير، وبمبدأ الرقابة المعترف بها لقضاة الدرجة الثانية على الأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية.
2 – المس بمقتضيات أخرى من قانون المسطرة المدنية :
إن إخراج الدفع بعدم الاختصاص النوعي من دائرة النظام العام، من شأنه أن يخلق تناقضا واضحا بين مقتضيات الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية، وبعض المقتضيات الأخرى المتواجدة داخل هذا القانون، كالفصول 9 و 26 و 148و 149و 322.
3 – التناقض مع قانون المحاكم الإدارية :
تنص المادة 12 من القانون رقم 41.90 على : " تعتبر القواعد المتعلقة بالاختصاص النوعي من قبيل النظام العام. وللأطراف أن يدفعوا بعدم الاختصاص النوعي في جميع إجراءات الدعوى، وعلى الجهة القضائية المعروضة عليها الدعوى أن تثيره تلقائيا".
و في معرض بيانه لمدى إمكانية التمسك بعدم الاختصاص أمام المجلس الأعلى سابقا، محكمة النقض حاليا، يقول أستاذنا محمد الكشبور :
" ...نظرا للموقف الجديد الذي تبناه المشرع المغربي بالنسبة للاختصاص النوعي من خلال أحكام الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية، فإن التمسك بالدفع بعدم الاختصاص بنوعيه أمام المجلس الأعلى قد فقد الكثير من اهميته.
فمن جهة، لا يمكن مطلقا للأطراف، ولا للنيابة العامة التمسك به لأول مرة أمام المجلس الأعلى، كما لا يمكن لهذا الأخير أن يثيره من تلقاء نفسه.
ومن جهة ثانية، لا يمكن للمجلس الأعلى ان يفصل في مسألة الدفع بعدم الاختصاص النوعي إلا :
- إذا تمسك به الخصم قبل أي دفع آخر أمام محكمة أول درجة فإهدرته أو رفضته.
- ثم ابداه كأول سبب من اسباب الإستئناف الأخرى فلم يقبل من طرف محكمة الدرجة الثانية.
- ثم ابداه أمام المجلس الأعلى كأول سبب للطعن بالنقض.
على أنه يلاحظ، إن محكنتي أول وثاني درجة إذا حكمتا أو إحداهما في الموضوع لصالح المتمسك بعدم الاختصاص، وطلب هذا الأخير تأييد الحكم استئنافيا أو طلب رفض الطعن بالنقض، فإنه يكون بذلك قد تخلى عن الدفع.... "
وعليه، فإن الاختصاص النوعي عميق الاتصال بالسياسة القضائية التي تنتهجها الدولة، ولا علاقة له بالمصالح الخاصة للأفراد، ومن ثم فإن الإجماع ينعقد في التشريع والفقه والقضاء، على تعلقه بالنظام العام، وهو الاتجاه الذي سار فيه قانون المسطرة المدنية القديم، والصادر سنة 1913 من خلال الفقرة الأولى من الفصل 124، والتي كانت تنص على أنه : " يجوز للخصوم أن يدفعوا بعدم اختصاص المحكمة من حيث النوعن ويجب على القاضي أن يصرح به تلقائيا في جميع أطوار القضية..."، وقد سلك المشرع المصري من خلال المادة 109 من قانون المرافعات المدنية والتجارية، والتي تنص على : "الدفع بعدم اختصاص المحكمة لانتفاء ولايتها أوبسبب نوع القضية أو قيمتها تحكم به المحكمة من تلقاء نفسها.
ويجوز الدفع به في أي حالة كانت عليها الدعوى".
والملاحظ، إن المشرع بمقتضى مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية ذات الصيغة 40 بتاريخ 12 ابريل 2019 قد نحا منحى توفيقيا ووسطيا، إذ نص على وجوب إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي من طرف محاكم الدرجة الأولى بمختلف أنواعها، وللأطراف أن يدفعوا به في أي حالة تكون عليها الدعوى أمام هذه المحاكم، ولا يمكن إثارته أمام محاكم الاستئناف إلا بالنسبة للأحكام الغيابية، ولا يمكن كذلك إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض، وهكذا تنص المادة 19 من المسودة على : "تثير محكمة أول درجة،ابتدائية كانت،أو ابتدائية تجارية أو ابتدائية إدارية،أو القسم المتخصص في القضاء التجاري أو القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية،عدم الاختصاص النوعي، تلقائيا.
يمكن للأطراف الدفع بعدم الاختصاص النوعي في جميع مراحل الدعوى أمام محاكم أول درجة،وأمام الأقسام المتخصصة في القضاء التجاري والأقسام المتخصصة في القضاء الإداري بالمحاكم الابتدائية.
يجب على المحكمة أو القسم المتخصص في القضاء التجاري أو القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية البت في الدفع بعدم الاختصاص النوعي داخل أجل ثمانية أيام من تاريخ إثارة الدفع بحكم مستقل لا يقبل أي طعن.
إذا قضت المحكمة أو القسم المتخصص في القضاء التجاري أو القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية بعدم الاختصاص النوعي، أحيلت القضية إلى المحكمة المختصة دون مصاريف، ويجب على الجهة القضائية المحال إليها القضية البت فيها.
لا يمكن إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي لأول مرة أمام محاكم ثاني درجة إلا بالنسبة للأحكام الغيابية. وفي هذه الحالة إذا قضت بإلغاء الحكم وصرحت بعدم الاختصاص النوعي، تحيل القضية دون مصاريف إلى المحكمة المختصة داخل أجل أقصاه ثمانية أيام.
لا يمكن إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي لأول مرة أمام محكمة النقض".
وإن كان هذا الموقف أفضل مما تبناه المشرع في قانون المسطرة المدنية الحالي ل 28 شتنبر 1974، إلا إنه لا يخلو من تناقض وارتباك أيضا، إذ لا يعقل أن يعتبر شيء ما من النظام العام في مرحلة، ولا يعتبر كذلك في مرحلة أخرى، فالنظام العام مسالة واحدة غير قابلة للتبعيض، فإما أن يعتبر الاختصاص النوعي من النظام العام أو أن لا يعتبر، وإن عدم اعتباره كذلك لسيترتب عنه ما تمت الاشارة له اعلاه من نتائج سلبية.
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق